منوعات

شهداء ليبيا الأقباط: دماء الشهادة التي أضاءت طريق الإيمان بقلم .نادى عاطف

في صباح يوم شتوي بارد من عام 2015، هزّت العالم صورة مروّعة: 21 مصريًا قبطيًا، يرتدون ثيابًا برتقالية، يسيرون في صف واحد على شاطئ مدينة سرت الليبية، وخلفهم رجال ملثمون، مسلحون بالسكاكين، ينتظرون لحظة التنفيذ. لم يكن المشهد مجرد جريمة بشعة، بل كان لوحة من الإيمان المتجذر في القلوب، رسمها رجال بسطاء خرجوا بحثًا عن لقمة العيش، لكنهم عادوا إلى أوطانهم قديسين وأبطالًا، بعد أن روى تراب الغربة دمهم الطاهر.

رحلة الغربة.. طريق إلى الشهادة

لم يكن هؤلاء الرجال سوى عمال فقراء من قرى مصرية صغيرة، خرجوا بحثًا عن لقمة عيش كريمة وسط ظروف اقتصادية صعبة. حملوا آمالهم فوق أكتافهم، وتركوا عائلاتهم خلفهم بانتظار يوم العودة، غير مدركين أن رحلتهم لن تنتهي عند أبواب منازلهم، بل ستُكملها أرواحهم في سماء الشهداء.

في أواخر عام 2014، بدأت أخبار اختفاء بعض الأقباط في ليبيا تصل إلى أهاليهم في محافظة المنيا. ظلت الأسر قلقة، تترقب أي بصيص أمل، حتى جاء اليوم المشؤوم في 15 فبراير 2015، حين نشر تنظيم داعش الإرهابي فيديو بعنوان “رسالة موقعة بالدم إلى أمة الصليب”. كان الفيديو إعلانًا واضحًا أن هؤلاء الرجال لم يكونوا مجرد ضحايا، بل كانوا شهداء للحق والإيمان.

لحظات الإيمان في مواجهة الموت

في مواجهة الموت، يتجلى الاختبار الحقيقي للإيمان. وفي تلك اللحظة الفاصلة بين الحياة والعدم، لم يكن صراخ أو هلع، بل كانت شفاه الشهداء تردد اسم المسيح، كأنهم كانوا يرون ما لا نرى، وكأنهم عبروا من عالم الأرض إلى سماء الأبدية قبل أن تلامس السكين رقابهم.

أما المشهد الأكثر إلهامًا، فكان موقف الشاب الغاني ماثيو أياجاريا، الذي لم يكن مسيحيًا، لكنه حين شاهد رفاقه يُقتلون بإيمان ثابت، رفض أن ينكر المسيح وقال بشجاعة: “إلههم هو إلهي”، لينال معهم تاج الشهادة، ويصبح اسمه محفورًا بجانبهم في ذاكرة المجد.

الرد المصري: الدم لا يُنسى

لم تنتظر مصر طويلًا، ففي اليوم التالي مباشرة، 16 فبراير 2015، شنت القوات الجوية المصرية غارات انتقامية على مواقع داعش في ليبيا، لتؤكد للعالم أن دماء المصريين غالية، وأن مصر لا تترك أبناءها مهما كانت الظروف.

وبعد ثلاث سنوات، وفي عام 2017، تم العثور على جثث الشهداء في مقبرة جماعية بسرت، وكانت المفاجأة أن أجسادهم ظلت بحالتها كما هي، كأن الزمن لم يمسها، ليُعادوا إلى أرض الوطن، حيث استُقبلوا استقبال الأبطال، ودفنوا في كنيسة شهداء الإيمان والوطن في قرية العور، والتي أصبحت مزارًا مقدسًا يتوافد إليه الأقباط من كل مكان، ليضيئوا الشموع ويطلبوا البركة من رجال رفضوا أن ينكروا إيمانهم حتى الموت.

معنى الشهادة: دروس في الإيمان والوحدة

استشهاد هؤلاء الرجال لم يكن مجرد مأساة، بل كان رسالة للعالم أن الإيمان الحقيقي لا يُهزم. لقد علمونا أن القوة ليست في السلاح، بل في القلب الذي لا يخاف، وفي الروح التي تختار الموت على أن تتخلى عن معتقدها.

كما أن الحدث لم يكن مجرد مأساة قبطية، بل كان مصريًا خالصًا، حيث وقف المسلمون والمسيحيون معًا في لحظة وحدة نادرة، يبكون هؤلاء الشهداء، ويرفعون صلواتهم من أجلهم، لأن الموت لا يفرّق بين دم ودم، والوطن يحتضن أبناءه دون تمييز.

الخلود في ذاكرة السماء

اليوم، وبعد سنوات من رحيلهم، لا تزال ذكراهم حيّة، ليس فقط في قلوب ذويهم، بل في وجدان مصر كلها. صورهم المضيئة تزين جدران الكنائس، وأسماؤهم تُذكر في الصلوات، كأنهم أصبحوا جزءًا من تاريخ القداسة المصرية.

لم يكن هؤلاء الرجال مجرد أسماء على قائمة ضحايا الإرهاب، بل صاروا أيقونات مقدسة، كُتبت أسماؤهم بحروف من نور في سفر الشهداء، ليؤكدوا أن الإيمان أقوى من السيف، وأن الموت ليس نهاية، بل بداية لحياة أبدية في حضرة الله.

نادى عاطف شاكر مصرى صعيدى وطنى حر حتى النخاع.شهيد تحت الطلب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *