حتى يكون الكل “أكثرية” في سوريا..
- لا تزال إشكالية “الأقليات” قائمة في السياسة العربية، فهي جزء رئيس من النقاشات حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، وبناء الهوية الوطنية والدولة المدنية القائمة عليها، كما أن حديث “الأقليات” ليس طارئاً على السياسة أو الأدبيات السياسية العربية، إلا أنه يغيب ويظهر بحسب السياقات التاريخية والسياسية المختلفة التي مرت على منطقتنا منذ أن بدأ فيها العمل والتفكير السياسي بشكله الحديث.
رائد الاعمال المفكر العربي حسن اسميك …
ليس حديث “الأقليات” حديثاً طارئاً على السياسة أو الأدبيات السياسية العربية، إلا أنه يغيب ويظهر بحسب السياقات التاريخية والسياسية المختلفة التي مرت على منطقتنا منذ أن بدأ فيها العمل والتفكير السياسي بشكله الحديث. فمع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومع صعود القومية العربية، بدأ النقاش حول الأقليات يظهر في سياق التحديات التي واجهت العرب تحت الحكم العثماني والاستعمار من بعده، وذلك في إطار محاولات تعزيز الهوية العربية التي تشمل جميع الفئات، بما في ذلك الأقليات الدينية والعرقية. وسنجد أن بعض مفكري تلك المرحلة، مثل عبد الرحمن الكواكبي وجرجي زيدان، قد تناولوا موضوع الهوية الوطنية والعربية بشكل شامل، مشددين على أهمية الوحدة بين المسلمين والمسيحيين كجزء من المشروع القومي، ولاحقاً تناولت التيارات المدنية قضية الأقليات ضمن سياقات أوسع تتعلق بالعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية.
وبطبيعة الحال، لا تزال إشكالية “الأقليات” قائمة في السياسة العربية، فهي جزء رئيس من النقاشات حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، وبناء الهوية الوطنية والدولة المدنية القائمة عليها. لكن هذا النقاش لا ينحصر على الدول العربية وحدها، فقضية الأقليات والتنوع والحقوق والحريات العامة ليست إشكالية عربية فقط، لأنه حتى في المجتمعات المتقدمة والتي قد تبدو مثالاً في احترام الأقليات والمهمشين داخل أراضيها، تظل هناك الكثير من الأسئلة وإشارات الاستفهام عن طبيعة هذا الاحترام، هل هو شكلي أم حقيقي؟ هل هو انتخابي فقط أم أنه يضمن لهذه الفئات حقوقها بما يتجاوز زمن الحملات الانتخابية؟ هل هو مفروض أم أنه طوعي تقوم به “الأكثرية” بملء إرادتها، ونتيجة معرفة ووعي وتطور فكري، وسيستمر حتى لو زالت دواعيه القانونية أو الأعراف الاجتماعية والدولية التي تفرضه، ما بات يعرف باسم “الصوابية السياسية Political Correctness”؟
يظهر عمق هذه المشكلة بوضوح في غياب تعريف جامع ومتفق عليه يمكن على أساسه وصف جماعة ما على أنها “أقلية”، فرغم كثرة تداول المصطلح، في التصريحات السياسية والقرارات الدولية وشُرع حقوق الإنسان، وحتى في الحوارات والنقاشات الإعلامية، لا يزال المفهوم الذي يعبر عنه المصطلح محلَّ خلاف وجدل، ويخضع لوجهات نظر الباحثين والدارسين، ولاختلاف معايير السياسيين والحقوقيين، لذلك نجد تعاريف مختلفة لمصطلح “الأقلية”، أكثرها يعتمد المعيار الأبسط وهو معيار العدد، لكن تتعقد الأمور عندما يرتبط متغير العدد بمتغيرات أخرى، كالدين أو اللغة أو العرق أو الإثنية أو غيرها من الانتماءات التي قد تؤثر على التعامل مع مجموعة ما على أنها أقلية أم لا.
من السهل أن تُعرف الأقلية بأنها مجموعة من الأفراد الذين يختلفون عن الأغلبية السائدة في المجتمع من حيث الدين أو اللغة أو العرق أو الثقافة والذين يتميزون بخصائص مشتركة تجعلهم يشعرون بالانتماء إلى مجموعة معينة تمنحهم هوية خاصة تميزهم عن غيرهم. ولكن، هل مجرد اختلاف العدد يجعل مجموعة ما أقلية؟ الإجابة بكل تأكيد هي لا. فالأقلية ليست بالضرورة هي الأقل عدداً، في جنوب أفريقيا مثلاً، وخلال زمن نظام الفصل العنصري أي منذ منتصف القرن الماضي إلى أوائل تسعيناته، كانت المجموعة المسماة “أقلية” (السود) أكبر عدداً بعدة مرات من حجم المجموعة التي تُعدُّ “أكثرية”. بالتالي اعتبار مجموعة ما أقلية يعتمد أساساً على الهيمنة، فالمجموعة المهيمنة هي الأكثرية، وكل ما عدا ذلك هم أقليات مهما كثر عددهم. وفي هذا السياق تؤكد الموسوعة الأمريكية للعلوم الاجتماعية أن “الأقلية”: «لفظ يستخدم في عصرنا للدلالة على أولئك الذين هم في وضع غير مسيطر أو دفاعي أو يشعرون بالاضطهاد». وبصورة مشابهة يرى البعض بأن الأقلية هم من يفتقدون حقوقاً سياسية أو مدنية معينة خلال فترة تاريخية أو في بلد ما. ومن الأمثلة الأقرب على ذلك هي سوريا في عهد البعث، والتي يكثر اليوم بسببها الحديث عن الأقليات وحقوقهم.
الدول العربية “الديمقراطية”!
لطالما أسهمت بعض دول الحزب الواحد العربية والتي كانت تخفي الاستبداد بقناع الديمقراطية، في إساءة فهم كثير من المصطلحات القانونية والحقوقية، خاصة تلك المصطلحات التي يمكن توظيفها سياسياً لخدمة مصالح الحكام “الديمقراطيين” على حساب مصالح المواطنين.
فعند الحاجة إلى تبرير حكمه وإعطائه شرعية، يتحول الحاكم إلى حامٍ للأقليات مثلاً ومدافع مستميت عن حقوقها، في وجه الأكثرية المتربصة بهم؛ وعندما لا تحقق له الأقليات مصالح تتحول في خطابه إلى “حصان طروادة” يستخدمه الخارج للتدخل في شؤون البلاد والتأثير على سيادتها وقرارها المستقل.
كذلك الأمر بالنسبة للديمقراطية، فعندما يمتلك “المستبد” الأكثرية العددية تصبح الديمقراطية النظام المرغوب والمطلوب، وتُعطى الأغلبية أهمية على حساب كل شيء آخر، مع العلم أن الديمقراطية ليست حكم الأكثرية، كما يحاول البعض الترويج لها عربياً، بل هي حكم الشعب، ولو فاز أي تيار أو جماعة بالانتخابات ولو حصل نسبة 99% من الأصوات، فهذا لا يلغي بأي حال من الأحوال مسؤوليته عن الـ 1% الباقية، وضرورة حمايتهم وتحقيق مصالحهم مثلها كمثل مصالح الأغلبية الفائزة. وبالطبع عندما لا تلعب الديمقراطية في صالح أصحاب السلطة تصبح مذمومة ومستورداً غربياً لا يتوافق مع مجتمعاتنا وثقافتنا العربية، وبأفضل الأحوال يقيمون انتخابات شكلية يحصلون على أساسها أغلبية عبر أدوات القمع والاستبداد.
يقول أمين معلوف، الأديب اللبناني العالمي، في كتابه الشهير “الهويات القاتلة”: «إن ما هو مقدس في الديمقراطية هو القيم وليس الآليات. وما يجب احترامه بشكل مطلق ودون أدنى اجتزاء هو احترام البشر، كل البشر، نساءً ورجالاً وأطفالاً مهما كانت معتقداتهم أو ألوانهم، ومهما كانت أهميتهم العددية، ويجب أن يتكيف نمط الاقتراع مع هذه الضرورة». هذا معيار لبناء نظم انتخابية يجب على كل الدول تبنيه، وخاصة تلك التي عانت سابقاً من طغيان حزب واحد أو دكتاتورية من أي شكل، وهذا ما فعلته ألمانيا مثلاً بعد الحرب العالمية الثانية، فقد عدلت نظام الانتخابات فيها بحيث يضمن عم استئثار أي مكون بالسلطة لوحده، فبناء الدول لا يقوم به حزب أو مجموعة أو طائفة، بل يقوم به شعب كامل، مهما كان متنوعاً ومختلفاً، ومهما كانت مكوناته كثيرة ومتباينة.
الأقليات في سوريا
من الواضح اليوم أن هناك تركيزاً خارجياً على حماية الأقليات وحرياتهم وحقوقهم المدينة في سوريا، وذلك يعود في جزء كبير منه إلى ماضي الفصائل التي تسيطر بحكم الأمر الواقع على السلطة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، فمعظمها من أصول سلفية جهادية، وبعضها مصنف على قوائم الإرهاب العالمية، ومن المعروف عن أتباع هذا الفكر استخدام تفسيرات دينية متطرفة لتبرير العنف ضد الأقليات (وضد الفئات المعتدلة والمنفتحة من الأكثرية نفسها). وبالمقابل تحاول بعض هذه الفصائل أن تظهر وكأنها تخلت تماماً عن ماضيها المشبوه وبدأت صفحة جديدة تمتاز باحترام كل الشركاء بالوطن، الأمر الذي ما يزال موضع تشكيك عند كثيرين داخل سوريا وخارجها، حيث يربطونه فقط بالحاجة إلى رفع العقوبات أو إزالة أسماء أشخاص وتنظيمات عن قوائم الإرهاب العالمية.
قد يبدو هذا الضغط الخارجي، ومحاولات الامتثال الداخلية أمراً ضرورياً في المرحلة الانتقالية الحالية لوضع قانون وإطار دستوري واضح أساسه المواطنة وحدها والتساوي في الحقوق والواجبات، لكن إذا كان هناك ما يعوَّل عليه في سوريا على المدى الطويل والمستدام، فلن يكون تدخلاً دولياً أو حماية أممية أو تطمينات سياسية تقدم للخارج، ما يعول عليه في سوريا هو السوريون أنفسهم، وقدرتهم على رأب صدوع الماضي، ورفض خطاب التحريض والتجييش والطائفية، أياً كان مصدره، والعمل يداً بيد لبناء بلدهم ولرسم مستقبل لأجيال سوريا القادمة. وأن يتذكروا أنه في سوريا ليست الأكثرية من دين أو مذهب أو طائفة، في سوريا الأكثرية هي من الطيبين المتآخين الذين تحملوا عقوداً من ظلم وبطش وتعديات نظام جائر محتكر أناني متعنت، لم يتوان يوماً عن استغلال الطائفية لفرض سلطته وتكريس جبروته وتحقيق مكاسبه الضيقة وإن كان ذلك على حساب الناس من مختلف الانتماءات، وعلى حساب العيش المشترك والأخوة والتراحم بين أبناء الوطن الواحد، وفي بعض الأحيان القرية أو الحي الواحد.
هذا التعاطي غريب على سوريا، وسيلفظه السوريون بذات السرعة التي فُرض بها عليهم من قبل نظام البعث أو من قبل دول إقليمية معروفة أرادت اللعب على الوتر الطائفي كما تفعل في كل مكان لتحقيق أطماعها وتوسيع نفوذها، وعلى السوريين أن يدركوا أن البيئة التي تقوم على القانون والمواطنة والمساواة هي نابذة بطبيعتها للدكتاتورية، ولا يمكن للأنظمة المستبدة الاستمرار في مثل هذه البيئة، وكل تصرف إقصائي–حتى وأن بدا في مصلحة الأكثرية– تقوم به الجهات التي تدير البلاد اليوم، حتى ولو كانت مؤقتة، قد يؤذن باستبداد قادم.
لذا على الأكثرية أن ترفض كل التصرفات الإقصائية، ومرة أخرى كما يقول أمين معلوف: «كل ممارسة تمييزية خطيرة حتى عندما تُمارس لصالح جماعة عانت». وبالمقابل على من يصنفون أنفسهم كأقليات، أن يدركوا أنه لا مصلحة لأحد بإفراغ سوريا من “أقلياتها”، ومن مكوناتها التي تعطيها ميزة حضارية قل نظيرها، وبالتالي لا بدَّ لهم من التخلي عن خطاب المظلومية وبأنهم جماعات مضطهدة ومقصية، والتفكير بالمقابل وبشكل جدي بالانخراط في العمل لبناء البلاد كمواطنين فاعلين فقط على أساس المواطنة والانتماء للبلد، فحقوقهم وحرياتهم سيضمنها لهم أخوتهم في الوطن، قبل أي دولة أجنبية.
إلى الأمس القريب ومنذ أكثر من خمسة عقود كان شعب سوريا كله أقلية تحكمها أوليغارشية فاسدة، لا دين لها ولا طائفة إلا المال والنهب والطغيان، واليوم ومع زوال هذه الطغمة يقع على عاتق السوريين أنفسهم أن يتحولوا كلهم -دون أي استثناء فئوي- إلى أكثرية، وأن يبنوا دولة لا يخاف فيها مواطن لا على حياته ولا على حريته بسبب انتمائه المذهبي أو الطائفي أو الإثني، عندها فقط يمكن القول إن سوريا تحررت تماماً وأن السوريين نجوا بأنفسهم وببلدهم.