ماذا لو اتفقنا؟! رائد الاعمال المفكر العربي حسن اسميك……
ماذا لو اتفقنا؟!
رائد الاعمال المفكر العربي حسن اسميك……
وراء كل مقال سبب ما، يكون مباشراً ليدفعني لكتابته، لا يخلو الأمر أحياناً من تجمّع أسباب ثانوية مع الوقت لتصنع هذا الدافع. ومع أنني لن أكتب اليوم عن “الكتابة”، ربما لأن الأسباب التي تصنع لديّ الدافع لهذا الأمر لم تجتمع بعد، لكن قبل أن أتحدث إليكم في ما أريد أن أتحدث فيه، ونختلف، دعوني أخبركم أولاً بأحد أهم أسرارها، أي الكتابة، وهو أنك لا تستطيع أن تكتب من دون دافع. وحتى إذا فعلت، وأرغمت نفسك على أن تكتب، فإنك لن تكون راضياً عمّا ستكتبه حتى لو أرضيت القارئ. والعكس يحدث أحياناً حين لا يرضى القراء عمّا أنت راضٍ عنه تماماً.
بهذا المعنى، أؤمن باستحالة أن يكون ما نكتبه ذا قيمة إذا انفصل عمّا نفكر فيه ونعتقده ونطمئن إليه، وكما أنك لا تستطيع أن تُكره الآخرين على الاتفاق معك في ما تفكر وتعتقد، فالأولى أن لا تُكره نفسك على الكتابة بما يتفق مع أفكارهم، ولا على السعي إلى أن تقول ما يُطابق معتقدهم. بمعنى آخر… ينبغي أن لا تخشى من اختلافك عن الآخرين، وأن تنظر إلى الأمر كهبة عظيمة لديك، وسببٍ يغني وجودك الفردي ويمنحه معنىً خاصاً بك في قلب هذا الوجود الكلي والمعمم. وهذا ما أريد أن أدافع عنه في مقالي اليوم.
هذا مقال في مديح الاختلاف، وهو أيضاً دعوة إلى التسامح في ما ينشأ عنه أحياناً من “الخلاف”. وعلى الرغم من أن الأغلبية تظن أنها تؤيد الاختلاف لكن بحدود، فإن المشكلة تكمن (أو الشيطان كما جرى القول) في التفاصيل التي توضّح هذه الحدود، والتي يتبين حين يرسمها أصحابها أنها تلغي الاعتراف بـ “الحق في الاختلاف” إلغاءً تاماً، وتكاد تقضي عليه من جذوره. وعلى الرغم من ذلك، لست في صدد الدفاع عن أن يكون الاختلاف بلا حدود، لكني لن أقول دعونا نوسّع هذه الحدود قليلاً، بل لنوسعها كثيراً، وكثيراً جداً إلى أقصى ما نستطيع، ثم لنحكم حينها على النتيجة التي ستترتب عن ذلك.
وحيث أنني تحدثت في البداية عن أن وراء كل كتابة دافعاً يدفع إليها، وأن اكتشاف الدافع سبيل من سبل الرضا الذاتي عن فعل الكتابة ونتاجها، فإن وراء ما سأكتبه اليوم سببيين اثنين مباشرين: الأول متعلق بنقد وجهه إليّ أحد الأصدقاء في حوار جرى بيننا مؤخراً، حيث لاحظ الصديق (وهذا رأيه أنقله كما جاء) أنني أمتدح الاختلاف نظرياً لكنني أرفضه عملياً، ودليله على ذلك الانتقادات التي تصدر عني ضد جهات شتى، فقط لأنني أختلف معها في موقف سياسي أو في رأي فكري أو في ما هو صحيح وخاطئ. لمّح صديقي أيضاً إلى أنني لا أتسامح في الاختلاف مع من هم لا يتفقون معي في ما أعتقده وأؤمن به. ولأن ما قاله أمر خطير لو كان صحيحاً، فقد فضّلت أن لا أنفي عني التهمة مباشرة، بل أن أمنح نفسي فرصة للتفكير والمراجعة كي أتأكد: هل أنا حقاً كذلك! وأنا من يظن نفسه مدافعاً عن حق الجميع في الاختلاف؟ سأعود إلى الحديث عن هذه “التهمة” بعد أن أتناول السبب الثاني.
يرتبط السبب الثاني بأنني عملت منذ فترة على البحث بشكل موسع حول المسيحية، لا لأجل إشباع دافع المعرفة فحسب، بل للكتابة عنها أيضاً: كيف نشأت وتطورت عبر تاريخها الذي بلغ اليوم قرابة ألفي عام، وكيف انقسمت وتشعبت في طوائف ومذاهب متعددة، وما الذي بقي محل اتفاق بين هذه المذاهب وما الذي اختلفت عليه؟ أما الغاية من ذلك كله فكانت الوقوف على الحروب والصراعات (المسيحية – المسيحية) التي تسبب بها اختلاف الطوائف المتعددة لأبناء دين واحد، وراح ضحيتها ملايين الأموات من الأبرياء مقابل موت بضع عشرات من أصحاب المصالح التي تسببت في استمرار إشعال نار الحرب وتصاعد العنف بحجة هذا الاختلاف. كنت أفكر دائماً ماذا لو اتفقوا منذ البداية؟ وماذا لو حرصوا على سريان الاتفاق بينهم دائماً؟ أليس الاتفاق أفضل سبل الحفاظ على حياة الناس؟ الجواب: “لا!”
أحد أهم الأخطاء التي تؤدي إلى فشل العقل في حلّ المشكلات هو انحرافه عن رؤية السبب الحقيقي للمشكلة وانشغاله بمعالجة أعراضها، تماماً كخطأ الطبيب حين يعالج عرض المرض وينصرف عن تتبع أسبابه، فيكبر المرض ويتمدد خلسة في ظل صمت أعراضه، حتى يصل إلى مرحلة ما عاد ممكناً فعل شيء تجاهها، ما يعني سقوط الجسد وقد خارت قواه وما عاد قادراً على المقاومة. شاهدُ هذا المثل أن الاختلاف لم يكن السبب في أمراض المجتمعات الإنسانية ومشكلاتها التي أوصلتها إلى هذه المستويات الشديدة من العنف، بل يكمن السبب الحقيقي، والذي ينبغي أن ينصب عليه اهتمامنا، في طريقة إدارتنا لهذا الاختلاف. فالبشر كثيراً ما يُسيئون استخدام اختلافهم كما يسيئون استخدام السلاح، وهذا يعني أن السلاح ليس المشكلة، وكذلك الاختلاف، بل إن وجودهما ضروري جداً. وكما حمى السلاح وجودنا منذ آلاف السنين، علينا أن نفكر بحق كيف يحمي الاختلاف جانباً مهماً من هذا الوجود!
بذلك، أردّ على صديقي الذي أظنه سيقرأ هذا المقال، لكن ذلك لا يمنع أن يكون لحديثنا السابق بقية، بعد أن يتوضح له أنني لا أنتقد الاختلاف مع الآخر، بل إدارة هذا الاختلاف. وفي رأيي أن معيار الإدارة الصحيحة للاختلاف معيار واضح وبسيط، هو الحرص الشديد دائماً على أن لا يؤدي الاختلاف مع الآخر إلى أي شكل من أشكال الاعتداء عليه، أي وباختصار بليغ: أن لا يؤدي إلى العنف، وهذا يشتمل على الحيلولة دون التعدي على حقوقه في الحياة أو الحرية أو المعتقد أو أسلوب العيش، أو الحيلولة دون إلحاق الضرر بعمله أو مصلحته أو ممتلكاته، أو أهله ومن يلوذون به في الدرجة الأولى. إن الحفاظ على هذه الحقوق جميعها، وعلى ما يتفرع عنها مما لا داعي للخوض فيه وتفصيله، هو الأساس الذي يقوم عليه اختلافنا. فنحن مختلفون لأننا أحرار، وقبل ذلك نحن مختلفون لأننا أحياء مطمئنون إلى أنّ ليس هناك ما يهدد حياتنا. ونحن أيضاً مختلفون لأننا نعتقد بما نريد، ونعيش بالطريقة التي نريد، ونزداد اختلافاً عن بعضنا كلما تقدمنا في سياق تجربة الحياة، نتيجة اختلاف مصالحنا واهتماماتنا وقيمنا التي توجه سلوكنا.
إذاً… نحن في الأصل نولد مختلفين، ونزداد اختلافاً! فإما أن نوجه حياتنا وسلوكنا نحو الإدارة المثلى لهذا الاختلاف الذي وُلدنا فيه، وإما أن نعاكس سنة الحياة فنقاومه، ونحدّه، ثم نضيق حدوده حتى يتلاشى، وحينها نصبح جميعاً بلون واحد وعلى معتقد واحد وأسلوب عيش واحد، تحكمنا فيه قيم واحدة واهتمامات موحّدة، وبذلك ينتفي وجودنا الفردي انتفاء تاماً. أفليس الحق إذاً أن نحافظ على فرادة وجودنا الروحي الذي يحميه الاختلاف كما حافظ أسلافنا على وجودهم المادي الذي حموه بالسلاح؟
تعالوا الآن ننظر في الاتفاق باعتباره نقيضاً للاختلاف. إن الاتفاق لا يلغي العنف والصراع بين البشر، لكنه قد يخففه. والاتفاق ليس حالة راسخة، ولا يمكن أن يصبح كذلك، بل هو في الأصل حالة طارئة، ولذلك فهي مؤقتة، وستنتهي سريعاً أو بعد فترة، أي ستنتهي في جميع الأحوال. أما الاختلاف مع حُسن إدارته فهو الأكثر جدارة في تخفيف العنف والحدّ من حدّة الصراعات، وهو الأكثر رسوخاً لنبني عليه حلم الفلاسفة والحكماء بسلام دائم بين البشر، ومع أننا قد لا ندرك تحقق هذا الحلم في حياتنا، لكننا سنكون بخير أكثر كلما كنّا قريبين منه أكثر. ويبقى أن تُكره شخصاً على الاتفاق معك كي تتعايشا بسلام أصعب كثيراً من أن تتبادلا الاعتراف باختلافكما ثم تمضيان للعيش بسلام. لذلك، فالاعتراف بالاختلاف رأس السنام، والشرط الذي لا تستقيم من دونه إدارة الاختلاف.
لكن.. ماذا لو اتفقنا؟ ينصحنا العقل بأننا إذا احترنا في الحكم على شيء فينبغي أن نطلقه، أي أن نعمّمه على كل الحالات وكل المواقف ثم ننظر في نتيجته كيف تكون. وهذا ما افترضناه قبل قليل، وتبين لنا أن إطلاق الاتفاق هو محوٌ للمعنى الفردي لوجود كل شخص منّا، ثم إلغاء هذا الوجود بالمطلق، لنكون نسخاً متعينة في الظاهر عن مثال وهمي في الباطن لا وجود له ولا حقيقة، أي نسخاً عن عدم مطلق.
إذا أردنا أن نتصور هذه النتيجة المفترضة، ومن الصعب جداً تصورها، أي كيف سيصبح حالنا حين نكون نسخاً متماثلة عن نموذج وهمي لا وجود له، فهذا في الحقيقة هو الجحيم ذاته، لأنه سيعني أن البشر ومنذ آلاف السنين سيكررون أنفسهم دائماً، وسنكون اليوم على ذات الطريقة التي كان عليها أول أسلافنا، لن نعرف تطوراً ولا حضارةً ولا ارتقاءً لمعنى وجودنا الإنساني، بل أظن أن جنسنا بلا الاختلاف سيكون قد انقرض في مرحلة مبكرة. فالإنسان هو أضعف الكائنات الحية وأفقرها إلى التكيّف لولا قدرته على التفكير والعمل. ومعنى أن نكون متماثلين تماماً أي أن نكون عاجزين عن التفكير، فالتفكير في هذا السياق هو ليس شيئاً أكثر من البحث عمّا هو مختلف. أما النتيجة الكبرى لكوننا نفكر، فهي أننا اليوم مختلفون كثيراً عن أسلافنا، ومختلفون جداً في ما بيننا، وهذا ما يجعلنا نطمئن إلى أن الاختلاف ليس مجرد حالة عرضية تصادفت مع وجودنا، بل هو جوهر أساسي في هذا الوجود، وضامن لاستمراره.
قد يقول قائل: “حيث إننا مختلفون رغماً عنّا، دعونا نسلّم في ما نحن مُختلفون فيه بالأصل، وما ليس لنا يد في تغييره، ولنلتفت إلى ما يمكن الاتفاق عليه، فنعززه ونوسعه قدر ما نستطيع”. لا أنكر أن هذه الدعوة إيجابية في ظاهرها، ويمكن أن تكون مفيدة أحياناً، لكن التاريخ يثبت أن الشطط كان من نصيبها دائماً، وأنها كثيراً ما عُدّت غاية بحد ذاتها، واتّخذها الأقوياء حجة ليرغموا الآخرين على الاتفاق معهم قسراً، فيستبدوا بهم ويحرموهم حق الاختلاف. ولذلك، ينبغي دائماً أن نتعامل مع هذه الدعوة تعاملاً مشروطاً يقوم على أن نعزز الاتفاق ونوسعه من دون المساس باختلافنا الأصلي وحقنا في ممارسة هذا الاختلاف وتمثّله، وسأوضح هذه النقطة مرة أخرى في النهاية.
ولكن… كي لا يُساء فهم موقفي من الاتفاق، ربما يجب أن أوضّح أن القيمة الحقيقية في الاتفاق المحمود والمفيد لا تكمن في القضاء على الاختلاف أو نفيه، بل في الحدّ من سوء إدارتنا لاختلافنا. ينبغي إذاً أن تنصب القيمة الحقيقية للاتفاق على الخلاف ذاته، لا على الاختلاف. ولذلك، فإن التأمل في معنى الاتفاق سيكشف لنا أنه يتضمن بطبيعته اعترافاً مضمراً بأن الأطراف الداخلة فيه مختلفون، لأنهم لو لم يكونوا مختلفين فإنهم ليسوا بحاجة إلى أن يتفقوا أصلاً. وهذا يعني أن كل اتفاق لا يُبنى على صون حق الاختلاف هو اتفاق ملغى لأنه مناقض لذاته، ومنكِر للحقيقة التي يضمرها.
تتبقى، كي تكتمل أركان هذا المقال، بضع أسئلة مباشرة ينبغي الإجابة عنها: ما الأشياء التي يحق لي الاختلاف فيها عن الآخر؟ الجواب: “كل ما هو ذاتيّ، أي كل ما يرتبط بوجودي الفردي وأعدّه مجالاً لممارسة حريتي الخاصة؛ كحريتي في الاعتقاد والإيمان، وفي التفكير، وفي القيم التي أتمثلها، وفي العمل ورعاية مصالحي الخاصة”.
في المقابل، ماذا عن السؤال حول ما لا يحق الاختلاف فيه؟ والجواب: “هو كل ما يخرج عمّا هو ذاتي ويكون هدفه الحفاظ عليه؛ هو القانون العام والمصلحة العامة والنظام العام، وكل ما ترتبط غاية وجوده بضمان حقيّ في الحرية والاختلاف”.
والسؤال الأخير: ما المعيار الضامن لأن لا يؤدي الاختلاف إلى الخلاف؟ والجواب هو التزام قاعدة (التضايف بين الحقوق والواجبات) في الاجتماع الإنساني القائم على المساواة بين الجميع، أي يجب عليّ في ممارسة حقوقي الخاصة التزام ما يضمن لجميع الأفراد ممارسة هذه الحقوق، وبمعنى آخر: “لا يجوز أن تؤدي حرية فرد ما في أن يكون مختلفاً إلى الاعتداء على هذه الحرية ذاتها عند فرد آخر، وألّا يؤدي أي فعل أقوم به بسبب أنني لا أشبه الآخر إلى الاعتداء على حقه هو في أنه لا يشبهني”.
لماذا الكتابة في مديح الاختلاف؟ هل من أجل إظهار اختلافي ذاته (أي حبّ الظهور بأنني مختلف)؟ هذا في كل الأحوال هدف مشروع إذا لم يبلغ الشطط ويتجاوز العقل، لكنه غير كافٍ عندي. ولأن المديح لأجل المديح هو جهد مهدور تنصحنا الحكمة بأن نتجنبه، لذلك أزعم أن في مديح الاختلاف تنبيه إلى حاجتنا الشديدة والمستمرة له كي يصير عالمنا أفضل، وكي يكون لوجودنا فيه معنىً أكثر غنى وثراء.
ونحن نحتاج إلى مدح الاختلاف أيضاً والكشف عن أهميته كي ننجح في عقد الاتفاق حين نحتاج إليه؛ وكي نتسامح في الخلاف فنتقي، بقدر ما نستطيع، شرور العنف والصراع. نحتاج إلى مدح الاختلاف كي تتوافق قيمنا ودوافعنا وسلوكياتنا مع سنّة الحياة في التطور والازدهار! فتّش في كافة عوامل تطور البشر وستجد أنها تعود إلى أحد أمرين: إما بسبب ظهور حاجات مستجدة مختلفة، أو بسبب التفكير بطريقة مختلفة.. وغالباً باجتماع السببين معاً.
أخيراً… إذا اتفقت معي في رؤيتي الموجزة هذه لمعنى الاختلاف وأهميته ودوره، فأنت إذاً تؤمن بحقك في الاختلاف عني. أما إذا اختلفت معي في هذه الرؤية، فأنت تمارس حقك في الاختلاف عني مباشرة. وفي الحالين: الاختلاف حقيقة لا يمكن نكرانها… فلنعزز فضائلها