د شيرين العدوي ” تكتب : قاض من مصر 2
عزيزي القارئ أكمل ما بدأته معك في مقالي السابق من سيرة المستشار بهاء المري والتي صدرت بعنوان “قاض من مصر” في 600 صفحة من القطع المتوسط؛ وقد اتخذت نفس العنوان عنوانا لمقالي مستملحة إياه؛ ذلك لأن الكاتب نكًّرالعنوان فجعله “قاض” واللغة تستخدم التنكيرإما للتمييز، وإما للشيوع كثرة يصعب التمييز معها، وقد استخدمه المستشار هنا تواضعا، ولكثرة القضاة. فياكم أنجبت مصرمن قضاة شرفاء زانوها وعمروها بأحكامهم العادلة؟!
وهو واحد من هؤلاء؛ بل إنه يعترف في المقدمة أن سيرته عادية وقد كتبها تحت إلحاح بعض المحبين، وأنه لما راجع مسيرته لم يجد فيها غير أمه؛ فقرر أن يكتب عن فطنة امرأة ترملت وهي لم تتفتح بعد، مجابهة مشكلات الطبقة الوسطى في مصر: من أكل مال اليتامي، وكيف يعاملون؟! وكأن يتمهم ذنب اقترفوه، ثم في التفرقة وإعلاء شأن الذكر على الأنثى، وكبت حرية الأرملة بانتقالها لبيت أبيها بحجة رعايتها وأبنائها؛ والحقيقة هي للسيطرة عليها وعلى أبنائها؛
ولكن هذه الأم العظيمة أعطت دروسا لأبنائها وللحياة في كيفية الحفاظ على كرامتهم وهيبتهم؛ والدفاع عن أموالهم. وكان أول درس لقاضينا هو رد الظلم ومعرفة مفهوم الحق،عندما رفضت أن تستولي أمها على معاش زوجها لتتحكم فيها وفي أبنائها، وقالت لابنها إنه الحق يا ولدي فلا تسمح لأحد أن يأكل حقك ولم تكن تعلم أن ابنها سيصبح قاضيا يرد الحق لأصحابه، ثم في الاستقلال إذ انتقلت إلى بيتها لما أهينت ابنتها في بيت أبيها لتربي أبناءها كيف شاءت. وكان خاتمة الدروس الرضا والسعادة بالقليل، ثم الاستغناء ففيه الغني، ولتصنع لنا قاضيا أديبا أمتعنا بمسيرته الإبداعية والحياتية التي بين أيدينا.
وقد عرج الكاتب في أحيان كثيرة أثناء سرده على حياته النيابية، والقضائية، وتوقف عند أهم القضايا التي تعرض لها، وأتت أهميتها من كونها أضحت بين ليلة وضحاها تأريخا للجريمة في مصر، وأسفرت عن أن أصل الجريمة في اختمارها ونشأتها لا تفرق بين الغني والفقير إلا أنها كشفت في لحظة ما عن أزمة الأخلاق، والسخط اللذين مُنِىَ بهما مجتمعنا. وتغول رأس المال. لقد أضحت تلك السيرة بما تحمل سفرا للمجتمع المصري كله بكل طبقاته في مدة ستين عاما.
فلما ذكرت دور زوجته وأولاده في مقالي السابق لم أقصد أبدا أن هذا أهم إنجازات قاضينا في الحياة كما فهم بعض قرائي، وإنما كان القصد من وراء ذلك منحة السكينة والحب اللذين يحتاجهما اليتيم لتوازنه النفسي، وعقد مقارنة بين يتيمين قاضينا، و”محمد عادل” المحكوم عليه الذي رغم عبقريته وتفوقه، واعتماده على ذاته في كسب قوته؛ عانى اليتم “المر” فانطوى على نفسه، وكان السخط ملازما له فكان يتطاول على أمه وأخواته، وأصبح رفض من أحبها سببا في هشاشته النفسية ودافعا للجريمة،
فإن كان قاضينا هو الذي رفض من قبل حبيبته لم يكن ليقتل أبدا ، وإن أعزو هذا للتربية وتغير العصر والإنترنت، فلم تفعل أم محمد كما فعلت أم قاضينا؛ إذ لم تسمح له أن يحيا طفلا أو صبيا مراهقا؛ بل كانت تدفع به دفعا لسلوك الرجال ومصاحبتهم حتى أصبح رجلا بحق تهابه المجالس. فاليتيم من ماتت أمه وليس من مات أبوه، ولكن أي أم تربي مع احترامي لكل الأمهات؟! وللحديث بقية.