المرتضى عن جرمانوس جرمانوس: شاعر الغرابة السهلة وديوانه متحف للوحاتٍ ثمينة وبصمة موهبته لن تتكرّر.
كتب وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى عن ديوان ” عْيوني وْلادْ ودمعتي زعترْ “للشاعر جرمانوس جرمانوس مقالًا جاء فيه :”جرمانوس جرمانوس اسم متكرِّرٌ لفظًا، لكنّه لا يتكرَّرُ شعرًا. هذه ليست مأثرةً خاصةً به، بل هي ميزةُ المبدعين من الشعراء والأدباء والفنانين والموسيقيين الكبار، الذين أُعطيت لكلٍّ منهم بصمةُ موهبةٍ خاصةٌ به، قد لا يصعُبُ تقليدُها، أما تكرارها فمستحيل. هي تمامًا كبصمة الإصبع التي تكتبُ أو تلوّنُ، وكبصمة العين التي ترى الجمال فتحوِّلُه حبرًا أو لوحةً أو نغمة. فهاتان البصمتان لا يمكن أن تتشابها عند شخصين مختلفين، وكذلك يعسرُ أن تجدَ موهبةً حقيقيةً يتكرّر وجهُها ذاتُه بكامل ملامحه وصفاته، إلاّ أنْ تكون تقليدًا عاجزًا عن محاكاة الأصل.
وتكمنُ البصمةُ الشعرية الخاصة بجرمانوس جرمانوس، في أنَّه شاعرُ الغرابة السهلة. أولُ ما يدلُّ على الغرابةِ في في ديوانه الجديد، إهداؤه إيّاه إلى “حماتِه” في بادرةٍ غريبةٍ ومُحِبةٍ وصادقة في آن معًا. ويدلُّ كذلك على سهولة الغرابة في قصائده أنّه قادرٌ على ترويضِ الصورة الخيالية البعيدة الجَماح، وزجِّها في مفرداتٍ لينةٍ قريبةِ المتناوَل، تختزنُ من الإيحاء طاقةً، هي بالطبع أقوى مما تنتجه في هذه الأيام، معاملُ دير عمار والزوق والزهراني معًا.
“ليكي القمر بالجردْ ليمونة
بدّك تجي ت نقشّرو الليلة سوا؟”
ربما تكون هذه أحلى وأغربَ دعوةٍ إلى لقاء عاشقين في ليلةِ جُرْدٍ تحت ضوءِ القمر. وعلى هذا المنوال تجري لغته الشعرية بالإجمال. هو فيها صيّادُ لوحاتٍ ثمينةٍ تسترعي انتباه الداخلِ إلى ديوانِه، فيحسبُ نفسَه في متحفٍ للفنون التشكيلية. وجرمانوس حريصٌ دائمًا على قولِ ما لم يُقَلْ بعد، وهذا هو العنوان الأساسي للإبداع: أن يأتي الشاعرُ بالمبتكَر غير المستعاد، في عملية صياغةٍ جديدةٍ بالأبجدية لمفرداتِ الوجود.
لكنَّ من أكثر ما لفَتَني في هذا الديوان، قسمَه الأولَ الذي يحتوي أربعَ قصائد كتبها جرمانوس لأبيه وأعمامه، وأزيدُ عليها قصائدَ أخرى لأمه وأصحابِه منثورةً بين صفحات الديوان. فبالإضافة إلى اللغة الشعرية المميزة طبعًا، يظهرُ من خلال هذه القصائد ومردُّ الإعجاب، تعلّق الشاعر بمفهوم العائلة، وعلاقاتِ المودّةِ والقربى التي تجمع أبناءَها بعضَهم ببعض، وبمشاعرِ الحنين إليهم إذا صاروا نزلاءَ غربةِ أرضٍ أو غَيبةِ عمر. إنّه التمسّكُ الأخلاقيُّ بهذه القيمة الإنسانية الراقية، التي كانت وستبقى نواةَ المجتمع اللبناني، والشرقي بعامةٍ، وسيعجزُ كلُّ من يحاولُ هدمَها وتفتيتَها، باستقدام الأفكار والمشاريع المشبوهة التي تتلطّى وراء فضيلة الحرية.
وأستطردُ هنا قليلًا لأقول: إنَّ عالم الحداثة العلمية وما أفضت إليه من تطوّرٍ صناعي ومعرفي هائل على جميع صعد الحياة البشرية قائمٌ كلُّه على نظرية النسبية التي قال بها أينشتاين. هذه النظرية التي تسود كلَّ شيءٍ في العلوم والصناعات لماذا يتمُّ تجاهلُها من قبل البعض عند مقاربة المسائل الأخلاقية المرتبطة بقيم المجتمع وتقاليده وآدابه العامة؟ ولماذا الدعوةُ إلى إسقاط تجارب أممٍ أخرى علينا ودفعُنا إلى تقليدها تقليدًا أعمى، حتى في الأمورِ التي لا تُجمعُ عليها مرجعياتُها وأجيالُها، ما دامت النسبية هي الأساسُ المرتبطُ بالوجدان الحضاري العام لكل شعبٍ من شعوب الأرض؟ ولماذا يرادُ لنا أن نُطفئَ موروثنا المناقبي الذي شكّل على مرِّ العصور ضوءًا حيًّا لحياتِنا، وضمانةً لاستمرار وجودِنا الاجتماعي؟ لكنهم مهما فعلوا لن يُفْلِحوا، لأنَّ الوعيَ العام يأبى أن تقمعَ القِلَّةُ الكثرةَ تحت ستار الحرية وحقوق الإنسان.
ولنتأمل قليلًا في معنى الحرية لدى المبدعين، حين يشيّدون بها عوالمَ جديدةً من حقٍّ وخير وجمال، كما يفعل الشعراء مثلًا ومنهم جرمانوس جرمانوس، أوَليست هذه الحريةُ بناءةً للإنسانِ في واقعِه ورؤاه، في يقظتِه وأحلامه، في حاضرِ يومِه وكلِّ الأزمنةِ الآتية؟ بلى وألفُ بلى.
“عْيوني وْلادْ ودمعتي زعترْ”
هذا ليس عنوانًا لديوان. إنَّه صورة أُمِّ جرمانوس وصوتُها. بل صُوَرُ كلِّ أُمَّهاتِنا وأصواتُهنَّ. ألا بورك هذا الصوت، في حضرةِ الغيابِ، وفي ملءِ الحضور، وبورك جرمانوس جرمانوس صوتًا شعريًّا متميزّا على امتداد المحكية اللبنانية؛ والسلام.