خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله
ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة الإمام الحسين (ع) التي أودعها عند أخيه محمد ابن الحنفية قبل أن يغادر المدينة إلى كربلاء، وجاء فيها: “إنَّ الحسين يشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وَحدَهُ لا شريك له، وأنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه، جَاء بالحقِّ من عنده، وأنَّ الجنَّة حَقٌّ، والنَّار حَقٌّ، والسَّاعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعثُ من في القبور، وإنِّي لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظَالِماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جَدِّي (ص)، أريدُ أنْ آمُرَ بالمعروفِ وأنْهَى عنِ المنكر، وأسيرَ بِسيرَةِ جَدِّي، وأبي علي بن أبي طَالِب، فَمَنْ قَبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقِّ، ومن ردَّ عليَّ هذا، أصْبِرُ حتى يقضيَ اللهُ بيني وبين القوم، وهو خَيرُ الحاكِمين. وهذه وصيّتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت وإليه أنيب”.
لم تكن وصيّة الإمام الحسين موجّهة إلى الَّذين كانوا في عصره، هو لم يحدها بذلك بل أراد لها أن تمتدّ إلى كلِّ عصر. لذلك هي وصية لنا يدعونا فيها إلى أن لا ندع الفساد والظلم والانحراف بكل عناوينه وأشكاله ينخر واقعنا ويستشري ونسكت عليه بل أن نكون من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، لا نداري ولا نجامل ولا نهادن الفاسدين والظالمين والمنحرفين، مهما بلغت الأثمان وغلت التضحيات.
وبذلك نعبر عن إخلاصنا للحسين(ع) ولكلِّ الدماء التي سالت في كربلاء. وبذلك تسهم ذكرى عاشوراء في كلِّ سنة بتغيير واقعنا، ونصبح أقوى وأكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات.
والبداية من لبنان، حيث يستمر الواقع السياسي على حاله من المراوحة من دون ان تبدو في الأفق أي بوادر لحل أزمة الاستحقاق الرئاسي بعدما بات واضحاً أن لا رغبة لأي من الفرقاء السياسيين بالتنازل عن خياره، بل قد يكون أكثر تشبثاً فيه، فيما الخارج الذي كان يراهن عليه بعد الاجتماع الذي صدر أخيراً في الدوحة للجنة الخماسية لا يبدو أن لديه رغبة بالحل أو حتى بتهيئة الظروف له من خلال ما كان يتم الحديث عنه برعايته لحوار بين اللبنانيين، فهو اكتفى بدعوتهم إلى أن يتدبروا أمرهم، بل قد تكون التصريحات والمواقف التي صدرت تسهم في جعل كل فريق يتشبث بقراره.
إننا أمام ما يجري نعيد دعوة الأفرقاء السياسيين إلى أن يبادروا بالقيام بمسؤوليتهم فلا ينتظروا أن يأتي هذا الوفد من الخارج أو ذاك بعدما أصبح واضحاً أن الخارج ليس مستعجلاً وأن لبنان ليس من أولوياته، كما بات واضحاً أن الحل لن يتم إلا بالحوار الذي نراه هو الكفيل بإزالة الهواجس والمخاوف من طرح هذا الخيار أو ذاك وبالتوصل إلى توافق على رئيس يحظى بقبول الجميع.
ولقد خبرنا جميعاً تأثير التداعيات التي أدى إليها هذا الفراغ على الصعيد المعيشي والحياتي للبنانيين والذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم وتزداد معاناة اللبنانيين معه، كالذي نشهده على صعيد تأمين الدواء والاستشفاء أو الحصول على مقاعد الدراسة لأولادهم للكلفة الباهظة التي باتت تفرض عليهم أو للفراغ الذي يوشك أن يحصل إن على صعيد قيادة الجيش وانعكاسه على الصعيد الأمني على خلفية الدور الذي يقوم به الجيش في حماية السلم الأهلي أو الحدود، أو على صعيد حاكمية المصرف المركزي والذي سيترك آثاره على الانتظام النقدي أو على سعر صرف الدولار بعدما أبدى نواب الحاكم عدم رغبتهم بتحمل هذه المسؤولية في الظروف الحالية إلا بشروط قد لا تكون واقعية في هذه المرحلة أو غير قابلة للتحقيق.
ونحن هنا، ندعو، وعلى الصعيد النقدي والمالي، إلى القيام بكل الخطوات التي توقف سياسات الهدر على صعيد الخزينة والتي لم تتوقف طوال السنوات الماضية والتي تحدث عنها بوضوح القائمون على إدارة هذا النقد، وجرت بالشراكة مع قوى سياسية، والتي أدت إلى المس بمصالح اللبنانيين وبمكتسباتهم وودائعهم وفاقمت من ارتفاع سعر صرف الدولار.
في هذا الوقت، تعود أزمة المودعين إلى الواجهة بعد سلسلة اقتحامات جرت لعدد من البنوك بعدما شعر المودعون باليأس من المطالبة بحقوقهم بالوسائل السلمية وبات السبيل الوحيد أمامهم هو العنف.
فنحن وإن كنا لا نحبذ هذا الأسلوب، لا نستطيع في الوقت نفسه أن ندين من يرى أن أمواله وجنى عمره أمامه ولا يستطيع الوصول إليه ويرى البنوك تزداد أرباحها يوما بعد يوم فيما هو لا يستطيع ان يؤمن حاجاته الضرورية، ومن هنا ندعو أصحاب البنوك ومعهم الدولة المعنية بمواطنيها إلى الإسراع بمعالجة هذا الأمر والعمل على رد الأمانات التي أئتمنوا عليها إلى أصحابها…
ونبقى عند ظاهرة الفلتان الأمني التي باتت تتنقل من منطقة إلى أخرى والتي شهدنا في الأسبوع الماضي مظهرا من مظاهرها في مناطق من المفترض أن تكون أكثر أمناً وأماناً، أعادت اللبنانيين إلى أيام ماضية اعتقدوا أنها لن تعود، وهم لا يريدون العودة إليها… ما يدعو إلى استنفار كل الجهود لمواجهة هذا الفلتان ومنع تكراره واستمراره وهو لن يحصل إلا بتعاون مع القوى النافذة على الأرض مع الدولة وأجهزتها ورفع أي غطاء عن المخلين بالأمن، وبهذا التعاون يمكن للأجهزة الأمنية أن تقوم بدورها في معالجة هذه الظواهر…
ونبقى عند الإساءة المتكررة التي تعرض لها القرآن الكريم والذي مع الأسف تأتي بموافقة الحكومة السويدية، وهي في ذلك بدت غير آبهة بالإدانات التي حصلت سابقاً ولا بالدعوات التي وجهت إليها بالتراجع عن هذه الخطوة التي مست بمشاعر المسلمين وكل الذين يعرفون مكانة القرآن الكريم…
ومن المؤسف فعلاً أن هناك من يتعمد إلى الإساءة للقرآن ومحاولة الحط من شأنه، وهو الذي منح قداسة لكرامة الإنسان وحريته، والذي يتميز في دعوته للتواصل بين الشعوب والأديان والثقافات وإلى إشاعة الرحمة والعفو الإحسان حتى إلى المسيئين، وعلى اعتماد الحوار لمعالجة الاختلافات والمشكلات باعتماد الحجة والدليل والكلمة الأحسن، والهادف إلى بسط السلام على الأرض على قاعدة العدل والبر بالآخرين، والرافض لاستخدام العنف إلا لرد العدوان، والحريص على عدم المس بمقدسات الآخرين… والذي يكاد لا يماثله كتاب أو دعوة أو فكر في الارتقاء بالقيم الإنسانية والأخلاقية كما ارتقى هو بها.
إننا في الوقت الذي نرى في هذا الفعل المستنكر إساءة لمشاعر مواطنيهم من المسلمين وللعالم الإسلامي بإجمعه، وتعزيزاً للاتجاهات العنصرية وتعكيراً لمناخ السلام بين الشعوب وتعطيلاً للتواصل والحوار، نقف مع الأصوات التي تدعو إلى موقف إسلامي موحد وحاسم لمواجهة هذه الإهانة ومنع تكرارها مجدداً في هذا البلد أو غيره، في الوقت الذي نطالب به الأمم المتحدة اتخاذ قرار يجرم الدول والجهات والأفراد الذين يسيئون لكرامة الأديان ومقدساتها.