خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله
ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به رسول الله أصحابه الذين كانوا معه في الحجة الوحيدة التي حجها معهم وهي حجة الوداع، حين وقف بهم في مثل هذا اليوم على صعيد منى فبعد ان حمد الله وأثنى عليه وقال: “أيها الناس، اسمعوا مني أبيِّن لكم، فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في مَوقفي هذا. أيها الناس، إن دماءكم، وأموالَكم، حرامٌ عليكم إلى أن تَلقَوْا ربَّكم، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.
أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يَحلُّ لامرئٍ مالُ أخيه إلا عن طيب نفسٍ منه، فلا ترجعوا بعدي كفَّارًا يَضرب بعضُكم رقابَ بعض، فإني قد تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده؛ كتاب الله وعترتي اهل بيتي.
أيها الناس، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عَجمي إلا بالتقوى
أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حقٌّ؛ فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنَّ خيرًا…
أيها الناس، إنَّ الله قد قسم لكلِّ وارثٍ نصيبَه من الميراث، ولا تَجوز لوارثٍ وصيَّةٌ، ولا تَجوز وصيَّة في أكثر من الثُّلثِ…
أيها الأحبة لقد أراد رسول الله من هذه الوصايا أن يحدد للمؤمنين نوعية العلاقة التي ينبغي أن تكون بينهم، وحذرهم من أن تعبث بهم الفتن بما يؤدي أن يقتل بعضهم بعضا وأكد أن مقياس التفاضل في الإسلام لا يكون على أساس الانساب والأموال انما بمقدار قربهم من الله وبعده عنه وأوصى بالنساء خيرا، ودعا ان لا يكون الإرث سببا للنزاعات والخصومات التي تحصل غالبا بين الورثة…
إننا من خلال الالتزام بهذه الوصايا نبنني مجتمعا متماسكا خاليا من النزاعات والعداوات ونكون أقدر على مواجهة التحديات…
والبداية مما يحصل اليوم على صعيد حجاج بيت الله الحرام حيث نشهد اليوم يوم النفر وفي هذه الساعات جموع الحجيج يغادرون أرض مكة من بعد ما أدوا مناسك حجهم.
هذه الفريضة التي جاءت تلبية لنداء ربهم وعبروا فيها عن وحدتهم وتماسكهم لم يفرق بينهم اختلافهم في البلدان والألوان واللغات والمذاهب وغير ذلك هم تجاوزوا كل ذلك عندما طافوا معاً وسعوا معاً ووقفوا معاً في عرفات والمزدلفة معا ورجموا معاً وضحوا وحلقوا ونفروا وباتوا معاً.
هذه الصورة يريد الله لهم أن يحملوها معهم عندما يعودون إلى بلدانهم ويبشروا بها ويذكروا من غفل عنها وأن يعملوا معاً على الدعوة إليها حيث يتواجدون وأن يطبقوها بان يتعاونوا ويتباذلوا ويقوي بعضهم بعضا ويسند بعضهم أزر بعضهم وأن لا يسمحوا لدعاة التفرقة بشق الصفوف وبذلك يحققوا معنى من معاني هذه الفريضة وواحدة من أهم أهدافها…
ونعود إلى هذا الوطن لنشير إلى التقرير الأخير الصادر عن صندوق النقد الدولي والذي بين فيه خطورة استمرار الوضع الحالي على ما هو عليه وحذر من بلوغ الدين العام إلى 550% من الناتج المحلي ودعا إلى الإسراع بالإصلاحات الضرورية للنهوض بالاقتصاد اللبناني وإعادة الثقة فيه، لأن الكلفة باهظة على لبنان ليس على سمعته وحضوره في هذا العالم فحسب بل أيضا على ملايين اللبنانيين العالقين في المصارف…
لقد جاء هذا التقرير لا ليضيف إلينا شيئاً جديداً لما كنا نعرفه، فالجميع يعي ما آل إليه هذا البلد ومدى الانحدار الذي وصل إليه ما جعله غير قادر على الوفاء بالتزاماته تجاه مؤسساته وجيشه وقواه الأمنية ولكنه يمثل شاهداً إضافياً عن مدى الاستهتار الذي تعيشه الطبقة السياسية التي لا تبالي بما يحدث، وسنراها تمر على هذا التقرير مرور الكرام كما حصل مع التقارير السابقة، ولاسيما موضوع التدقيق الجنائي الذي قامت به احدى الشركات ودفعت لها الأموال من دون محاسبة لأحد، كل هذا الانحدار لا يدعوها إلى الإسراع بالقيام بما هو واجب عليها من سد الفراغ الحاصل على صعيد رئاسة الجمهورية وعدم وجود حكومة مكتملة الصلاحية والذي سيمتد إلى موقع حاكم المصرف المركزي ممن عليه حماية النقد الوطني وإلى قيادة الجيش اللبناني…
إن من انعدام المسؤولية أن لا تبادر هذه القوى إلى التلاقي فيما بينها لتأمين هذه الاستحقاقات وبأسرع وقت ممكن ونراها تكتفي بالحديث عن حوار لم تتأمن مقوماته ولا من يقوم به أو بانتظار ما سيأتي من الخارج، وقد لا يأتي وإن جاء فربما لا يكون سريعا لان لبنان أصبح في آخر سلم اهتماماته أو لن يكون لحساب اللبنانيين وهو ما يدعو إلى رفع الصوت عالياً في وجه هذه الطبقة: كفى استهتاراً بوطن لأجله بذلت التضحيات والاثمان الغالية حيث نجد إنسانه يبحث عن بلد آخر أو تراه يتسكع في بلده على أبواب المؤسسات والجهات والأفراد باحثا عن لقمة عيش أو دواء أو طبابة أو مقعد دراسة لأولاده.
ونتوقف عند الحدث الخطير الذي حصل في السويد والذي أسيء فيه إلى مقدس من أهم المقدسات عند المسلمين وهو القرآن الكريم وما زاد من خطورته أنه تم باحتفالية وتغطية إعلامية وبقرار من القضاء السويدي من دون الاخذ في الاعتبار ما يؤديه هذا العمل المشين من استفزاز لمشاعر المسلمين في العالم من جهة ونشر الكراهية والحقد والعداء لهذا البلد بدلا من المنطق الذي ندعو إليه وهو منطق الاحترام والتبادل والتواصل والحوار…
إننا ندعو الحكومة السويدية إلى عدم السماح باستمرار مثل هذه التصرفات المسيئة والتي لا يمكن تسويغها تحت أي مبرر أو وفق أي معيار، فليست حرية تلك التي تؤدي إلى استفزاز مشاعر الاخرين والإساءة إلى مقدساتهم في الوقت الذي ندعو المسلمين إلى أن لا يقعوا في فخ الانفعال وردود الفعل التي قد تسيء إلى صورة المسلمين والإسلام وتساهم في تنامي الاتجاهات العنصرية والمتطرفة التي ترفض وجودهم في هذه البلدان.
وأخيرا نتوقف عند الذكرى الثالثة عشرة لرحيل السيد(رض) الذي غادرنا بعدما ملأ قلوبنا محبة ورحمة وعزز فينا الإيمان والانفتاح وكان بالنسبة لنا المربي والموجه والباعث للوعي وللغة الحوار والفكر بدلا من لغة العصبيات والانفعال ووقف بكل صلابة في مواجهة الاحتلال والاستكبار والظلم والحرمان والجهل والغلو والخرافة
وأقل الوفاء له ولنهجه ان نكون حاضرين في ذكرى رحيله والذي سيقام ان شاء الله نهار الثلاثاء القادم في قاعة الزهراء(ع) في تمام الساعة الخامسة والنصف فليكن حضورنا بمستوى محبة السيد والالتزام بنهجه.