خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بوصية الإمام الهادي(ع)، حين قال لأصحابه الذين سألوه عمن هم خير الناس، قال(ع): “إن خير العباد من يجتمع فيه خمس خصال: إذا أحسن استبشر، وإذا أساء استغفر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا ظلم غفر”.
فخير الناس وأحسنهم في منطق الإمام(ع) هو من يترك أثراً طيباً في قلوب الناس وعقولهم وفي حياتهم، وإن أساء يسارع إلى الاستغفار والاعتذار، ومن يقدر المعروف الذي يبذل له ويشكره ويبادل جميل الآخرين له بجميل وإحسانهم بإحسان، وإذا ابتلي لا يجزع بل يصبر، وإذا أسيء له يعفو إلا إذا كان العفو يضره..
فلنستوصي بهذه الوصية لنكون حقاً من الموالين والمنتهجين نهجه، ونكون خير الناس وواجهتهم، وأقدر على مواجهة التحديات.
والبداية من هذا البلد الذي يسير بخطى سريعة نحو كارثة حقيقية تهدد كيانه وأمنه واستقرار أبنائه فيه، وهذا ما نشهده في الارتفاع الجنوني الذي يبدو أنه لن يقف عند حد في سعر صرف الدولار الذي تجاوز الستين ألف ليرة وقد يصل إلى أكثر من ذلك، والذي يعود إلى استمرار السياسة النقدية التي يديرها المصرف المركزي بالتغطية السياسية التي تمنح له، ما ينعكس بطبيعة الحال ارتفاعا بأضعاف مضاعفة في أسعار السلع والمواد الغذائية والدواء والاستشفاء والمحروقات وسبل تأمين الكهرباء والماء، وقد يؤدي إلى فقدانها وبات ينعكس اضطراباً في الشارع والذي قد يتصاعد باستمرار هذا التردي.
وبدلاً من أن تبادر القوى السياسية إلى استنفار جهودها من أجل معالجة ما يجري نجد إمعاناً في اللامبالاة وترك الحبل على غاربه، حيث تستمر المراوحة القاتلة على هذا الصعيد ولم تنفع كل الجهود التي تبذل ولا الضغوط التي تمارس ولا مناشدات الداخل والخارج للإسراع بانتخاب رئيس للجهورية الذي يمثل الممر الإلزامي للخروج من النفق الذي دخلنا إليه، فيما حكومة تصريف الأعمال لا تقوم أو لا تستطيع القيام بدورها في تصريف الأعمال لعدم قدرتها على الاجتماع لاتخاذ القرارات الضرورية لأداء هذا الدور حرصاً على عدم انقسامها والتداعيات التي قد تحصل من وراء ذلك.
ما زاد من الطين بلة هو الانقسام الحاصل غير المسبوق داخل الجسم القضائي في قضية كقضية المرفأ، هذه الكارثة التي كنا نريد أن يتوحد عليها الجسم القضائي وكل اللبنانيين لكشف حقيقة ما جرى فيها ومحاسبة المرتكبين مهما كانت مواقعهم، حتى لا تتكرر المأساة التي حصلت والتي تركت آثاراً دامية على البشر والحجر من الضحايا البريئة التي سقطت والدمار الهائل الذي وقع.
ونحن في هذا المجال، لن ندخل في مدى صوابية القرارات القضائية التي اتخذت من المحقق العدلي المكلف بهذه القضية أو ما صدر من محكمة التمييز وحدود الصلاحية التي تعود إليهما، ما يتعين أن يحسم ضمن الآليات القضائية التي ينبغي أن تسارع لوضع الأمور في نصابها، وإن كان من حقنا أن نتساءل عن الأسباب والخلفيات التي دفعت إلى عودة الملف بالصورة التي صدرت فيها القرارات بعدما بقي مجمداً لفترة طويلة، والتي تؤثر في النظرة إلى سلامة التحقيق ومنطلقاته في هذه القضية ومشروعية أهدافه ما قد أدى ويؤدي إلى تداعيات خطيرة قد نتساءل أيضاً عن أسبابها وغاياتها، وإن كنا لا نزال نرى أن كل هذا الانقسام العميق هو نتاج للأزمة السياسية المتفاقمة والتي يستثمر فيها الأفرقاء السياسيون في كل المواقع، وخصوصاً، وللأسف، في المؤسسة القضائية.. إن كل ما نريده هو الحفاظ على سلامة هذا المرفق الحيوي وأن يبقى بعيداً من التجاذبات التي تحصل على الصعيد السياسي أو الطائفي والمذهبي، لأننا نرى في بقاء هذا الانقسام تعطيلاً لدور هذا المرفق والثقة به، وقد يؤدي إلى ضياع قضية المرفأ ودفنها أو يسمح للعودة للحديث عن عدم صلاحية القضاء اللبناني لمعالجة هذه القضية بكل تعقيداتها وغيرها من القضايا الأخرى.
إننا أمام كل هذا الواقع المتردي الذي وصلنا إليه، نعيد مناشدة القوى السياسية الفاعلة إلى تحمل مسؤوليتها وعدم الانكفاء عن أداء دورها لمنع وصول البلد إلى المآل الذي وصل إليه والذي يخشى أن يتعدى ذلك إلى تهديد الاستقرار الأمني الذي لا يزال البلد يحظى به ولو بحدود معينة، والذي قد يكون مستهدفاً لحسابات داخلية أو خارجية، وذلك بالعمل السريع لخلق مناخ لتوافق يضمن الوصول لانتخاب
رئيس للجمهورية تمهيداً لحكومة فاعلة قادرة على النهوض بهذا البلد وقضاء مستقل ونزيه وشفاف وبعيد عن الارتهان، وهذا بالطبع لن يحصل في حال بقي كلٌّ على مواقفه بل هو بحاجة إلى تنازلات متبادلة، وهذا لا يعني إننا ندعو إلى أي رئيس بل نصر على رئيس يملك الجدارة والكفاءة والأخلاقية والإرادة لبناء دولة المؤسسات وقادر على جمع اللبنانيين، ولا نعتقد أن هذا غير متوافر أو غير ممكن التحقيق.
إننا نرى أن المطلوب في هذه المرحلة ليس البحث عن كيفية تأمين الأصوات فقط بل عن كيفية تأمين الظروف التي تضمن نجاح العهد الجديد على المستوى الداخلي وقدرته على النهوض بهذا البلد أو على الصعيد الخارجي.
ونبقى في المجال الفلسطيني، وأمام الاعتداءات والمجازر المستمرة التي ترتكبها قوات العدو في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإننا ندعو إلى أوسع حملة تضامن مع الشعب الفلسطيني، وإلى تسليط الضوء الإعلامي والسياسي على إرهاب هذا العدو الذي تتوالى هجماته وممارساته الإرهابية من دون أن يصدر أي موقف دولي لإدانة جرائمه والتي هي جرائم حرب.
إننا في الوقت الذي نحيي بطولات هذا الشعب وروح المقاومة والتضحية فيه، ندعو العرب والمسلمين لوقفة حقيقية معه وهو الذي يذود بشبابه وشيبته ونسائه وأطفاله عن المسلمين كلهم والعرب كلهم، بدلاً من خذلانه والانكفاء عنه.
وأخيراً، نتوقف عند الممارسات العدوانية والعنصرية المستمرة التي جرت سابقاً وتجري الآن، وكان آخرها في السويد ومن ثم في هولندا من حرق المصحف الشريف، لندعو مجدداً إلى ضرورة إيقاف هذه الممارسات التي تسيء إلى مشاعر المسلمين جميعاً، وإلى منعها بدلاً من تأمين الحماية لمن يقوم بها تحت عنوان حرية التعبير لتداعياتها على العلاقة بين البلاد التي تحدث فيها وبين المسلمين والتي نريدها أن تبنى على الاحترام المتبادل والتعاون المشترك والتلاقي لا التباعد والتحاقد والنزاع.