خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله
ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما كان أوصى به النبي(ص) أحد أصحابه وهو قيس بن عاصم عندما قال له: “وإنه يا قيس لابد لك من قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريما أكرمك وإن كان لئيما أسلمك، لا يحشر إلا معك ولا تحشر إلا معه ولا تسأل إلا عنه، ولا تبعث إلا معه، فلا تجعله إلا صالحا، فإنه إن كان صالحا لم تأنس إلا به، وإن كان فاحشا لا تستوحش إلا منه وهو عملك”.
لذلك، لنحرص على أن تكون أعمالنا صالحة لتكون أنيسة لنا في قبورنا وعندما نقف بين يدي ربنا، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}، وبذلك نكون أكثر وعياً ومسؤولية وقدرة على مواجهة التحديات.
والبداية من هذا البلد الذي يدخل عامه الجديد مثقلاً بالهواجس والهموم والتي تعود إلى عدم وجود دولة قادرة على معالجة الأزمات التي يعانون منها والأخطار التي تحدق بهم، حيث يستمر الشغور على صعيد رئاسة الجمهورية وعدم وجود حكومة أصيلة تتولى المسؤولية الكاملة وللخلاف الحاد حول صلاحيات حكومة تصريف الأعمال بعد الاجتماع الحكومي الأخير فيما يستمر التأزم على الصعيد المعيشي والحياتي، فالدولار الأميركي فهو إن توقف قليلاً فقد يعاود الارتفاع لعدم وجود حلول جذرية تحدّ منه، إن على الصعيد النقدي أو الاقتصادي أو منع مضاربات أو التهريب للأموال فيما تستمر معاناة اللبنانيين لتأمين احتياجاتهم الضرورية وأبسط مقومات حياتهم، بفعل ارتفاع الأسعار وتدني القدرة الشرائية لديهم ما بات يدفع من لا يفكر بخيار الهجرة من هذا البلد إلى التفكير به ولو على متن قوارب الموت والذي كدنا أن نشهد فصلاً جديداً من مآسيه أخيراً لولا إنقاذ المركب الذي كان يقلهم من قبل القوى الأمنية.
أما الخارج الذي كان دائماً رهان اللبنانيين لمعالجة أزماتهم الاقتصادية وملجأ لهم للوصول إلى الاستحقاق الرئاسي والذي لا يزال هناك من يراهن عليه، فلا يبدو أنه متحمس للتدخل في ظل الطبقة السياسية الموجودة كما بات يصرح والفساد المستشري وعدم الرغبة بالإصلاح.
إننا لا نريد من وراء ذلك، أن نغرق في التشاؤم ولسنا ممن يدعون إليه بقدر ما نريد من ذلك أن نرفع الصوت عالياً اتجاه من يديرون هذا البلد بأن نقول لهم كفى تكراراً لمعاناة اللبنانيين وإدارة الظهر لهم واستخفافاً بمصالحهم وإذلالهم، وهم يتسكعون بحثاً عن لقمة عيش أو عن دواء أو لتأمين الكهرباء والماء…ألا يكفي كل ما يجري بكل تداعياته حتى تتداعوا وتتلاقوا وتتدارسوا السبل التي تضمن إخراج البلد من هذا المنزلق والانهيار الخطير الذي وصل إليه.
إنّ من المؤسف أن نشهد بدلاً من ذلك مزيدا من الانقسام وتلكؤاً في المعالجات وتصاعداً في السجالات الحادة التي لا تسمن ولا تغني من جوع كالتي نراها اليوم على صعيد الكهرباء وإذا كان من لقاءات نشهدها ورغم أهميتها، لما قد تساهم في تبريد الأجواء والتخفيف من التشنجات على الأرض، لكنها تبقى في إطار المجاملات ولا تنتج حلولاً.
ولذلك فإننا نجدّد دعوتنا لكل القوى السياسية الممثلة في المجلس النيابي إلى صحوة ضمير وإلى أن يرأفوا بناسهم الذين ائتمنوهم على مواقعهم ووعي المخاطر في استمرار الواقع على حاله وتداعياته الخطيرة وذلك بالعمل بكل جدية لتغليب إرادة التوافق والتي تبقى السبيل الوحيد للوصول إلى ملء الشغور على صعيد رئاسة الجمهورية لأهمية هذا الموقع وصولاً إلى تشكيل حكومة تقوم بالإصلاحات التي تخرج هذا البلد من أزماته وتعيد ثقة اللبنانيين بوطنهم والعالم به.
إننا نرى أن أي تأخير لبلوغ هذا الطريق يعمق المآزق ويجعل البلد لقمة سائغة بأيدي من يريد العبث بأمنه واستقراره وسيادته والذين لا يريدون له الخير.
ونبقى في هذا البلد لنتوقف عند الزيارة التي ستتم للوفد القضائي الأوروبي لإجراء تحقيقات حول ما يثار حول حاكم المصرف المركزي وعلامات الاستفهام التي تدور حوله ولمعرفة الأسباب التي أدت إلى الانهيار الذي وصل إليه هذا البلد.
إننا نأسف أن يأتي من الخارج من يسعى إلى النظر في ملفات الفساد والمنضوين تحت لوائه، والذين تسببوا فيه فيما القضاء اللبناني المدعو إلى القيام بدوره على هذا الصعيد إما معطل وإما منكفئ عن أداء مهامه أو لا يتجرأ على ذلك.
لقد آن الأوان لاستعادة القضاء دوره وهو أمر لن يتم إلا بإيجاد القوانين التي تضمن استقلاليته وإخراجه من عباءة السياسيين وأصحاب الأموال واختيار النزيهين لتولي سدته، وتأمين العيش الكريم لهم الذي يضمن حريتهم ونزاهتهم..
وبالانتقال إلى سوريا التي تتفاقم معاناتها اليومية بسبب الحصار الاقتصادي المفروض والذي يأتي مصحوباً بالضغط الأمني والعسكري المتواصل، الذي يمارسه الكيان الصهيوني وكان آخره العدوان الخطير الذي استهدف مطار دمشق، والرسالة التي بعث بها ذلك كله يجري في سياق المحاولات الرامية لإضعاف هذا البلد ودوره، ولتقديم التنازلات في سيادته وأمنه وقراره الحر.
إننا في الوقت الذي ندين فيه حرب العقوبات والحصار الظالم فإننا ندعو الدول العربية والإسلامية إلى الوقوف مع هذا البلد في معاناته ومنع أي استهداف له.
ونتمنى في الوقت نفسه أن تعود العلاقات بين سوريا وتركيا وبقية الدول العربية والإسلامية إلى وضعها الطبيعي، بفتح صفحة جديدة يعود فيها السلام والأمن والاستقرار إلى هذا البلد الذي ينعكس مزيداً من الاستقرار والأمن في الجوار.
وأخيراً، إننا نرى في الاستباحة الجديدة من وزير الأمن الصهيوني الجديد للمسجد الأقصى وتدنيسه وانتهاك حرمته محاولة من حكومة العدو الجديدة للتلويح بالقوة في مواجهة الفلسطينيين، وإيذانا بمرحلة أكثر عنفاً ودموية معهم وإساءة لمشاعر العرب والمسلمين، ما يستدعي تضامناً مع الشعب الفلسطيني ودعما ًله على مختلف المستويات.
وهنا ننوه بكل الأصوات التي ارتفعت في مواجهة هذا التدنيس وندعو إلى تحويلها إلى عمل جاد لمواجهة غطرسة هذا الكيان ومشروعه التهويدي وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني الذي أثبت ويثبت كل يوم ومن خلال التضحيات الجسام التي يقدمها إنه أمين على أرضه ومقدساته ولن يسمح للعدو الصهيوني بالعبث بها.