خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله
ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بوصية رسول الله لنا إلى الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري عندما قال: “أوصيكَ بِتَقوى اللهِ تَعالى؛ فإنَّه رَأسُ الأمرِ كُلِّه.. قلت يا رسول الله، زدني: عَليكَ بِتِلاوةِ القُرآنِ وذِكرِ اللهِ تَعالى؛ فإنَّه ذِكرٌ لكَ في السَّماءِ، ونورٌ لكَ في الأرضِ.. فقلت له زدني، قال: عَليكَ بِطولِ الصَّمتِ إلَّا في خيرٍ؛ فإنَّه مَطْرَدَةٌ للشَّيطانِ عنكَ.. فقلت له زدني، قال: إيَّاك وكَثرةَ الضَّحِكِ؛ فإنَّه يُميتُ القلبَ، ويَذهَبُ بِنورِ الوَجهِ.. فقلت له زدني: قال: صل قرابتك وإنْ قطعوك، وأحب المساكين وأكثر مجالستهم، قلت يا رسول الله زدني، قال: قل الحقّ وإن كان عليك مرّاً، قلت يا رسول الله: زدني، قال: لا تخف في الله لومة لائم”…
أيّها الأحبة: إننا أحوج إلى هذه الوصايا التي إن أخذنا بها فسنكون أكثر وعياً ومسؤولية والتزاماً برسول الله(ص) وقدرة على مواجهة التحديات.
والبداية من معاناة اللبنانيين على الصعيدين المعيشي والحياتي والتي يبشر اللبنانيون بأنها ستزداد سوءاً بفعل الارتفاع المستمر لسعر صرف الدولار الأمريكي الذي يبدو أنه لن يقف عند حد أو يخضع لضوابط والذي ينعكس وفي ظل انعدام أي رقابة ارتفاعاً مضاعفاً في أسعار السلع والمواد الغذائية والمحروقات والدواء والاستشفاء وكل حاجات الناس الأساسية، والذي لم تعد تداعياته تقف عند حدود عدم قدرة اللبنانيين على تأمين سبل عيشهم الكريم واحتياجاتهم، بل تعدت ذلك إلى أمنهم واستقرارهم في هذا البلد الذي تزداد يوماً بعد يوم أعداد الفارين منه والهاربين من جحيمه.
ومع الأسف يحصل كل ذلك في ظل عدم وجود دولة قادرة على إخراج البلد من حال التردي الذي وصل إليه وإنسانه في معاناته، حيث يستمر مشهد الفراغ الحاصل على صعيدي رئاسة الجمهورية والحكومة من دون أن يبادر من ائتمنهم اللبنانيون على إدارة شؤونهم إلى القيام بمسؤوليتهم، والعمل لملء هذا الشغور، ولمنع التداعيات الخطيرة التي يتم التحذير منها في الداخل والخارج إن هو استمر على الصعيد الاقتصادي أو الأمني وحتى على صعيد كيان الدولة.
إننا أمام هذا الواقع المتردي، نعيد دعوة القوى السياسية إلى تحمل مسؤوليتها والإسراع اليوم قبل الغد في تهيئة كل الظروف لانتخاب رئيس للجمهورية والذي أصبح واضحاً أنه لن يأتي إلا بالتوافق ولن يكون بغلبة فريق على آخر…
إننا نعيد التأكيد على ما قلناه سابقاً وأكثر من مرة، أن القوى السياسية قادرة على السير بهذا الاستحقاق إن خرج الجميع من حساباتهم الخاصة والفئوية أو رهاناتهم الخارجية وأخذوا في الاعتبار حسابات الوطن وإنسانه، ولا يراهنن أحد أن يأتي المدد من الخارج، فالخارج إما مشغول بأزماته وانتخاباته أو أن لبنان لم يعد من أولوياته بعدما أصبحت في مكان آخر، أو لأن لبنان بات ساحة صراع المحاور الجاري إقليمياً ودولياً فيما لم يحن بعد موضوع التسويات.
إن على القوى السياسية أن تأخذ في الحسبان خطورة استمرار الوضع المعيشي والحياتي على حاله والذي قد يجعل الناس يخرجون عن طورهم وعن الصبر الذي لا يزالون يتحلون به، ما قد يمهد الطريق لمن يريد العبث بأمن هذا البلد واستقراره، وخطورة التطورات التي تجري على صعيد المنطقة والعالم، مما لا يمكن مواجهتها ببلد يعاني ما يعاني منه على المستويات الاقتصادية والمعيشية أو السياسية وانعكاساتها على وحدته الداخلية.
ونبقى على صعيد الداخل، لنثمن أي جهد يبذل في مواجهة ملف الفساد الذي استشرى في هذا البلد، وندعو إلى متابعته وعدم فرملته، كما تفرملت الكثير من المبادرات السابقة تحت وطأة الضغوط السياسية أو بفعل استثمار هذه الملفات في سياق الصراع السياسي ومن ثم إغلاقها عندما يغمد هذا الصراع حيث لا قيام لهذا البلد ولا نهوض له إلا بإزالة هذا الفساد ومعاقبة الفاسدين.
وهنا في هذا الإطار، نعيد التأكيد على أهمية عودة القضاء للعمل ليؤدي دوره على هذا الصعيد، لكننا نريده أن يكون نزيهاً أميناً على العدالة ومستقلاً وبعيداً كل البعد عن أية حسابات سياسية أو غير سياسية أو أداة من أدواتها حتى لا يفقد دوره في تحقيق العدالة للجميع.
أما على الصعيد الأمني، فإنا لا بد من أن ننوه بالدور الفاعل الذي تقوم به القوى الأمنية في تفككيها للخلايا الإرهابية وملاحقة وضبط عمليات السرقة والمخدرات رغم كل الظروف الصعبة التي تعانيها بفعل الواقع الاقتصادي القاسي، وندعو إلى دعمها بكل ما يضمن استمرارها بأداء هذا الدور منعاً لعودة الإرهاب وتفشي الجريمة، والحؤول دون أن يتحول هذا البلد ملاذاً آمناً لكل الذين يعملون على خرابه.
وأخيراً، فإننا في يوم الشهيد الذي نعيش ذكراه في هذه المناسبة، لا بد أن نستحضر التضحيات التي قدمها هؤلاء الشهداء عندما بذلوا حياتهم من أجل عزة هذا الوطن وكرامته واستقلاله، وبعيداً عن كل الحسابات الخاصة والآفاق الصعبة…
إن من حق هؤلاء الشهداء علينا أن نكون أوفياء لهم، بأن نبقيهم في العقل والوجدان وأن تستكمل مسيرتهم من أجل حفظ الوطن وكرامة إنسانه.