خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الله سبحانه وتعالى، عندما قال لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. هي دعوة منه سبحانه وتعالى للمؤمنين، أن يكونوا واعين للحياة التي يعيشونها وأنها لن تكون دائماً بالصورة التي يريدونها ويرغبون بها.
ففي الحياة ابتلاءات أشار الله إليها سبحانه بكل وضوح، عندما قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
وفي الحياة تحديات وصعوبات تحدث الله سبحانه وتعالى عنها، عندما قال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
ولذلك يدعو الله سبحانه وتعالى المؤمنين إلى التمسك بسلاحين هما ضروريان في مواجهة أعباء الحياة وتحدياتها، السلاح الأول؛ هو الصبر والتماسك وعدم الضعف والانهيار أمام التحديات والابتلاءات، والسلاح الآخر هو التوجه إلى الله بالصلاة والدعاء والذكر للتقوى به والتزود من معين سلطانه.
وقد وعد الله من يتمسك بالصبر والصلاة أنه لن يخذلهم ولن يدعهم يواجهون الحياة هذه وحدهم بل سيكون لهم مؤيداً ومعزاً وناصراً وأكثر قدرة على مواجهة التحديات…
والبداية من لبنان حيث تستمر معاناة اللبنانيين على الصعيد الاقتصادي والمعيشي والصحي، بفعل ارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية والخدمات وأسعار المحروقات التي لم تعد تعرف حدوداً إن على صعيد مادة البنزين إن تم رفع الدعم عنها كاملاً، أو على صعيد المازوت والغاز والذي يترتب عليه الزيادة في كلفة الانتقال والكهرباء فيما يستمر فقدان العديد من الأدوية الضرورية للعلاج لا سيما الأمراض المستعصية، في وقت باتت المستشفيات تنوء تحت وطأة ارتفاع كلفة المازوت الضروري لتشغيلها وارتفاع متطلبات الاستشفاء مما يهدد قدرة المواطنين على تحمل كلفته العالية وقدرة المستشفيات على الاستمرار بأداء دورها، وقد وصل ذلك إلى التعليم حيث سيدعو هذا الواقع المتردي المدارس والجامعات إلى رفع أقساطها حتى تتمكن من أن تواكب حاجاتها المتزايدة إن على صعيد الجهاز التعليمي أو متطلباتها.
يأتي كل ذلك في وقت لا تزال المصارف تحجز أموال المودعين ويستمر التدني في رواتب العاملين والموظفين، رغم الزيادات التي أقرت أخيراً عليها، فهي لا تفي ولو بالحد الأدنى من الغرض؛ ليبقى على اللبنانيين التفكير بالهجرة من هذا البلد أو استجداء من يتواجدون في الخارج.
ومع الأسف، يجري كل ذلك فيما الواقع السياسي لا يزال يتعامل مع البلد وكأنه بألف خير وأن اللبنانيين قادرون على التحمل، فالحكومة التي كان يفترض أن يسارع إلى تأليفها بمجرد اكتمال عقد المجلس النيابي، يتحدث الكثيرون أنه وإن حصل التكليف قد لا يحصل التأليف في ظل التنافس الذي قد يجري لاقتسام الجبنة ولا سيما الوزارات التي تعتبر وازنة، وخصوصاً أن هذه الحكومة قد تبقى لتسد فراغ رئاسة الجمهورية إن لم يتم الوفاق على رئيس جديد.
ونحن في هذا المجال، نجدد دعوتنا للقوى السياسية إلى الإسراع في تشكيل حكومة قادرة على النهوض بأعباء هذه المرحلة الصعبة وعدم التباطؤ في ذلك حتى لا يدخل البلد مجدداً في دوامة الانتظار الذي ستكون تداعياته خطيرة أكثر من أي وقت مضى.
إن على الذي يتولون الواقع السياسي أن لا ينتظروا أن تأتي الحلول من الخارج فما ينتظرونه لن يأتي في ظل انشغال الخارج بأزماته وخروج لبنان عن جدول أولوياته.
ونبقى على صعيد مفاوضات ترسيم الحدود التي جرت في الأسبوع الماضي والتي أتت بعدما أقدم العدو الصهيوني على خطوته الاستفزازية باستقدام سفينته لاستخراج النفط من دون أن يأخذ في الاعتبار كون المنطقة التي يريد استخراج الغاز هي منطقة متنازع عليها مع لبنان، وقد قدمت الدولة اللبنانية خلالها وجهة نظرها في مسألة الترسيم وتأكيدها أن لا استخراج للغاز قبل انتهاء هذه المفاوضات.
وبانتظار ما ستؤول إليه هذه المفاوضات ورد الكيان الصهيوني على ما طرحته الدولة اللبنانية، نعيد التشديد على ما قلناه سابقاً بضرورة تمسك لبنان بحدوده البحرية كاملة وعدم التفريط بأي شبر منها أو المساومة عليها وعدم الرضوخ في ذلك إلى تهديدات العدو وتهويلاته وحربه النفسية أو الخضوع للابتزاز تحت وطأة حاجة لبنان إلى الاستفادة من الثروة النفطية والغازية، وأن تكون القاعدة في ذلك أن لبنان ليس ضعيفاً والعدو الصهيوني ليس قوياً إلى الحد الذي يملك فيه أن يفرض فيه شروطه على لبنان…
إننا نعي مدى الضغوط التي قد تمارس على لبنان في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعاني منها والتي تدعوه إلى الاستعانة بالخارج… ونعي جيداً مخاطر الوقوع في حرب في هذه المرحلة، وليس هناك من يغامر بها لتداعياتها وأعبائها الكبيرة، ولكن ذلك لا يدعو إلى التنازل وتقديم أعطيات مجانية لهذا العدو تحت وطأة الحاجة أو الخوف من هذه الحرب، فالعدو في المقابل يخشاها ولا يريدها، بعدما جربها وجعلته أكثر معرفة ووعياً بأن اللبنانيين لا ينامون على ضيم الاحتلال ولا يقبلون سياسة فرض الشروط بالقوة، وهو أيضاً من يحتاج إلى الغاز للوفاء بالتزاماته بعد الاتفاق الذي جرى بينه وبين أوروبا بتأمينه الغاز ليكون بديلاً من الغاز الروسي.
إننا وعلى أبواب المفاوضات، ننبه إلى ضرورة الحذر من الوقوع مجدداً في سياسة التسويف في المفاوضات والتي استفاد منها العدو سابقاً وجعلته ينهي مرحلة التنقيب ويصل إلى مرحلة الاستخراج، ومن دون أي تفريط بحقوق لبنان واللبنانيين والتي ينبغي أن تبنى على أساس القانون الدولي للبحار.
ونتوقف أخيراً عند العدوان الصهيوني الذي جرى على مطار دمشق الدولي، فإننا في الوقت الذي نستنكر هذا العدوان الجديد نأسف جداً للصمت إزاءه، وندعو إلى موقف عربي موحد يضمن سيادة هذا البلد واستقراره ويقف في وجه كل من يريد الإساءة إلى أمنه ودوره…