خطبة الجمعة لسماحة الدكتور جعفر فضل الله
ألقى سماحة السيد الدكتور جعفر فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
في فلسطين التي هي جريمة هذا العصر الكبرى، والشاهد المستمرّ على جور النظام العالمي الذي تتحكّم به مصالح دولٍ معدودةٍ في مقابل مصالح المليارات من البشر.. الأمر الذي يجعل الصّراع في فلسطين – وهذا ما يجب أن نتذكّره دائمًا – صراعًا على تصحيح المسار لتكون العدالة هي التي تحكم القوّة وليس العكس.
إنّ الجرائم المتنقّلة التي يرتكبها العدوّ هي الفعلُ، وكلُّ ما يقومُ به الشّعب الفلسطيني هو ردّ الفعل الطبيعيّ الذي يقوم به أيّ شعبٍ تُحتلُّ أرضُه، ويُطرد منها، ويُمنع من العودة إليها. وفي المناسبة لا بدّ من التنويه بالعمليّات النوعية التي يقوم بها فلسطينيّون أبطال، يضربون عمق الكيان وقلبه، في وقتٍ يعيش هذا الكيان اهتزازات داخليّة غير مسبوقة.
ومن نافل القول إنّ هذا الاهتزاز يجب أن يشكّل عبرةً لكل الذين كانوا يُراهنون على ثبات هذا الكيان، ليعقدوا صفقاتٍ هنا أو ليعقدوا معاهدات تطبيعٍ أو سلامٍ مزعومٍ يُراهنون من خلالها على قوة الكيان الصهيوني لحفظ مواقعهم، فيما هذا الاهتزاز يأتي ليعبر عن عجز المشروع الصهيوني من خلال فشل قياداته في تحقيق أهدافه في الحروب المتعددة التي شنتها على لبنان وفلسطين منذ عام 2006.
وهذه المنطقة التي شكّلت مجمع الرسالات السماوية، ولا سيّما المسيحية والإسلام، وشكّلت بقيمها وتاريخها نقطة الإشعاع للعالم، لا ينبغي لها أن تُقاد ذليلة بسياسات ليس همّها سوى إراحة هذا الكيان الهجين والسرطانيّ، ولا بد من مراجعة هذه السياسات التي أثبتت التجارب أنها تزيد من شراسة هذا الكيان وتزيد من أطماعه التي لا حدود لها، ولن يأمن منها حتى دول التطبيع، مراجعة تقتضي إعادة بناء الجسور بين الدول العربية والإسلامية لأننا لم نجنِ من الانقسام سوى الدّمار والمزيد في إفقار دول المنطقة وتأزيم مستقبل شعوبها.
لقد اختصرت فلسطين كلّ تاريخنا، بكلّ مآسيه ومشاكله وأزماته، لتكون السياسات الكبرى في المنطقة هي سياسات حماية الكيان الصهيوني، من خلال العمل على حصار كل القوى الممانعة والمقاومة لمشاريع هذا الكيان ومنعها من نُصرة الشعبٍ الفلسطينيّ الذي يُذبح في كلّ لحظة، وهي سياسات تهدف إلى شل حركة الشعوب التي تتّخذ فلسطين بوصلتها…
إنّ الحصار الحقيقي الذي يُراد فرضه على المنطقة، لا تمثّل الشّعوب بالنسبة إليه سوى أرقام في مصالحه الكبرى وهو ما ظهر في كيفية تعامل دول كبرى مع مأساة الزلازل الأرضية الأخيرة في المنطقة.
قد يفكّر البعضُ في أنّ مدّ اليد للدّول الكبرى والرضوخ لإملاءات المؤسّسات الاقتصادية الخاضعة لها سيحلّ مشاكلنا الاقتصادية والسياسية، وسيؤمّن العيش الرغيد لأبنائنا في مدى المستقبل؛ ولكنّ التجارب علّمتنا أنّ الحلاوة التي نأخذها من ذلك ليست سوى ملعقة عسلٍ لا تلبث أن تزول حلاوتها سريعًا، لتعود تلك السياسات لتفرض علينا أن نكون أذلّاء سياسيًا واقتصاديًا وتمنعَنا من أن نطبّق حقيقةً كلّ شعارات الحرّية والاستقلال والسيادة وما إلى ذلك.
أمّا في لبنان، فمن نافل القول إنّ استقامة عمل الدولة يحتاج إلى ملء كلّ الفراغ في مواقع الدولة، ولكن نقول للسياسيّين: وأنتم تبحثون في اسم هذا الرئيس أو ذاك، وتتنازعون على مواصفاتٍ هنا وهناك، حبّذا لو أنّكم – ولمرّة واحدة – أن تختبروا إنسانيّتكم، وتنتخبوا لهذا الشّعب من يداوي آلامه، وأن تخفّفوا عنه كيدكم، وأن تتنازلوا لمصلحته، وأن تثبتوا في إرادتكم أمام الضغوط لأجله، بدلًا من أن تستخدموا ألمه في اللعب على شروط عيشه، لأجل إنضاج طبخة هنا وصفقة هناك.
إنّ القيمة الحقيقيّة لأيّ سياسة أو سياسيّ هي بمقدار ما تقترب ويقترب من الناس، لا بالكلام المعسول، وإنّما بالمواقف التي تبرز فيها معادن الصّدق والأمانة والإخلاص والسيادة والاستقلال، في زمنٍ نحتاج فيه إلى شيءٍ من كلّ ذلك لكي نتجاوز هذه المحن والأزمات التي يطبق فيها الخارج على الداخل، ويخضع فيها الداخل لإملاءات الخارج وربّما لأمنياته؛ والله من وراء القصد.